مدرسة الشعر الحر

مدرسة الشعر الحر

ظهرت هذه المدرسة الشعرية في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين ، وتمثل الرؤية الشعرية والفنية التي يبحث عنها جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ، من كسر للنمط الموروث في الحياة والفن والشعر ، ومفهوم جديد للشعر يأبي الأغراض التي لا تلائم المجتمع الجديد ، ويمكنهم من التعبير عن رؤيتهم للعالم من منظور هم الفلسفي والفني والاجتماعي . وكان لهذا التحول في فهمهم للشعر أثر بالغ في التحول في بنية القصيدة العربية وشكلها ، فتحررت القصيدة عندهم من وحدة البيت في الشعر العمودي الموروث لوحدة القصيدة ، مما عزز لديهم الوحدة الموضوعية أيضا ، فكل قصيدة حرة تعبر عن موضوع ما ، وتكون أجزاؤها ومقاطعها ملتحمة من أجل هذه الوحدة . وبدلًا من عدد معين من التفعيلات في كل شطر ، صار كل شطر في القصيدة الحرة يضم عددا غير محدد من التفعيلات ؛ إذ قد تزيد التفعيلات أو تقل ، لذا أطلق النقاد على هذا النوع من الشعر : شعر التفعيلة ؛ لأنه يقوم على التفعيلة ولا يقوم على عدد معين منها في كل شطر من شطري البيت في الشعر العمودي الموروث . مع عدم الالتزام بقافية واحدة ، وإنما تتنوع القوافي على نحو حر أيضا . وكان من أبرز رواد هذا الشعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري في العراق ، وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي في مصر ، ونزار قباني وأدونيس في سوريا .

بدر شاكر السياب 

شاعر عراقي ولد عام ١٩٢٦ في قرية جيكور من قرى قضاء أبي الخصيب بالبصرة ، وهو من أشهر رواد التجديد في الشعر العربي المعاصر ، ومن أوائل مؤسسي مدرسة الشعر الحر ، مع زملائه من الشعراء . عاش اليتم مبكرا بعد وفاة أمه ، وتلقى علومه الدراسية بين البصرة وبغداد . تميزت قصائد السياب بالتدفق الشعري ، والخروج عن الشكل التقليدي للقصيدة ، كما اتسمت بملمح حزن سيطر عليها ، وذلك بسبب ظروف حياته الصعبة ، من النواحي الاجتماعية والنفسية والجسدية ، ولاسيما مرضه الذي أودى بحياته في ٢٤ / كانون الثاني من عام 1964 في المستشفى الأميري في الكويت ، ثم نقل إلى البصرة ، ليدفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير . له دوواوين كثيرة ، منها ( أزهار ذابلة ١٩٤٧ ) ، و ( الاسلحة والأطفال ١٩٥٤ ) ، و ( المعبد الغريق ١٩٦٢ ) ، و ( منزل الأقنان ١٩٦٣ ) .


أنشودة المطر 

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ، أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر عيناك حين تبسمان ثورق الكروم وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهر يرجه المجذاف وهنا ساعة السحر كأنما تنبض في غوريهما ، النجوم ... وثغرقان في ضباب من أسى شفيف كالبحر سرح اليدين فوقه المساء ، دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ، والموث ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛ حفظ الى (كنشوة الطفل إذا خاف من القمر) كالبحر سرح اليدين فوقه المساء ، دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ، والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛ فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء ونشوة وحشية تعانق السماء كنشوة الطفل إذا خاف من القمر ! . كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم وقطرة فقطرة تذوب في المطر ... وكركر الأطفال في عرائش الكروم ، ودغدغت صمت العصافير على الشجر أنشودة المطر ... مطر . قطر . مطر ... تثاءب المساء ، والغيوم ما تزال تسح ما تسخ من دموعها الثقال . كان طفلا بات يهذي قبل أن ينام : بأن أمه التي أفاق منذ عام فلم يجدها ، ثم حين لج في السؤال قالوا له : 
(بعد غد تعوذ ..) لا بد أن تعوذ
وإن تهامس الرفاق أنها هناك في جانب الثل تنام نومة الأخوذ تسف من ثرابها وتشرب المطر ؛ كأن صيادا حزينا يجمع الشباك ويلعن المياه والقدر وينثر الغناء حيث يأفل القمر . أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟ ۱۳۸ وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟ بلا انتهاء ، كالدم المراق ، كالجياع ، كالحب ، كالأطفال ، كالموتى هو المطر ! ومقلتاك بي تطيفان مع المطر وعبر أمواج الخليج تمسح البروق سواحل العراق بالنجوم والمحار ، كأنها تهم بالشروق فيسحب الليل عليها من دم دثار . أصيح بالخليج : ( يا خليج يا واهب اللولو ، والمحار ، والردي ! ) فيرجع الصدى كانه النشيج : ( یا خلیج يا واهب اللولو ، والردى .. ) 


معاني المفردات
  • السحر : الوقت الذي يسبق شروق الشمس أو الثلث الأخير من الليل الكروم : جمع كرمة وهي شجرة العنب . 
  • غوريهما : مثنى غور ، وهو كهف العين وموضعها اللحود : جمع لحد ، أي القبر .
  • تسف : تلتهم . الوجه .
  • المزاريب : جمع مزراب وهو الميزاب أيضا ، أنبوب لتفريغ مياه المطر .
  • النشيج : صوت البكاء المتردد .
  •  الردي : الموث .
  • أصدق تعبير : أصيح بالخليج : ( يا خليج يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! ) فيرجع الصدى كانه التشيخ : 


التعليق النقدي 

يرسم بدر شاكر السياب في هذه القصيدة التي هي من عيون الشعر العربي الحديث ، صورة للمجتمع العراقي بطبقاته وفئاته الاجتماعية ، ويحاول تصوير التفاوت الطبقي بين الناس بنبرة من الحزن والأسى . وهو يصور بلده العراق حبيبة خيالية يضفي عليها ملامح ريف بلده وأنهاره وغاباته وبساتينه ، فعيناها غابتا نخيل ، أو شرفتان من شرفات مدن العراق . وهذا النوع من تصوير الأشياء المادية أو النباتات أو الحيوانات بملامح بشرية يدعى أنسنة هذه الأشياء ، أو تشخيصها أي جعلها شخصيات إنسانية تعي وتشعر وتتكلم . ولا ريب في أن قصيدة السياب انعكاس لحالة المجتمع العراقي في خمسينيات القرن العشرين المنقسم على طبقة الفقراء والمحرومين من كسبة وصيادين وفلاحين ، وطبقة المنتفعين الأغنياء من إقطاعيين وبرجوازيين ، فموارد البلد تذهب لطبقة دون طبقة ، وليس هنالك توزيع عادل لثرواته ، وهذا ما عبرت عنه القصيدة ( یا خلیج يا واهب اللؤلؤ ، والردي .. ) ويدعى هذا النوع من النقد الذي يعني فيه الناقد بتحليل الطبقات الاجتماعية التي تحيط بالشاعر وربط رؤيته بطبقة من هذه الطبقات نقدا اجتماعيا . فقد عمد الشاعر في هذه القصيدة إلى تصوير التفاوت الطبقي والاستغلال بأبشع صوره مع توافر خيرات البلد « كأن صيادا حزينا يجمع الشباك ويلعن المياة والقدر وينثر الغناء حيث يأفل القمر
أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟ وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟ بلا انتهاء ، كالدم المراق ، گالجياغ ، كالحب ، كالأطفال ، كالموثي هو المطر ! » على أن اللازمة التي يرددها بين مقاطع القصيدة : « مطر مطر مطر » تدل على خيرات البلاد وتجدد دورة الحياة فيها . ويتضح أن الشاعر استطاع الموازنة الخلاقة بين منحيين أدبيين : منحى الفن للفن ومنحى الفن للمجتمع ، فالقصيدة تظهر الواقع الاجتماعي وتعبر عن إرادة الناس بالانعتاق من الظلم الاجتماعي والاستغلال الطبقي ، بصورة تسمو بشعور القارئ وتدفعه إلى التأمل في الطبيعة الاجتماعية وإرادة الشعوب في كل حين .

مدرسة الشعر الحر
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-